لاتثق بأحد....
حين استيقظ، كان طعم الدم القديم يملأ فمه، وحرقة قيد معدني بارد تخنق معصمه الأيسر. اليد الأخرى كانت ممدودة بشكل يائس نحو ورقة بيضاء باهتة على الطاولة الخشبية المتشققة، أصابعه متصلبة كما لو أنها تجمدت في منتصف محاولة يائسة لكتابة شيء ما.
كانت النافذة مواربة، تسمح لتيار هواء ليل بارد يحمل معه همسات المدينة البعيدة ورائحة كريهة غير محددة بالتسلل إلى الغرفة. الستائر الرثة، بلون رمادي باهت كلون الجدران، كانت تتلوى ببطء، كأطراف أشباح تحاول الإمساك بشيء غير مرئي. لم يكن هناك صوت واضح سوى صفير قطار بعيد، يئنّ في المسافة كما لو كان وحشًا جريحًا.
على الجدار المقابل، فوق طاولة عليها بقع بنية داكنة، كانت ثلاث كلمات مكتوبة بدم جاف ومتخثر: "لا تثق بأحد." الحروف ملتوية وغير منتظمة، تشي بيأس وعجلة.
نظر حوله ببطء، محاولًا تجميع شظايا الذاكرة المتناثرة. كيف وصل إلى هذا المكان الكئيب؟ الغرفة لم تكن مألوفة على الإطلاق—جدرانها مطلية بلون رمادي موحل، الأثاث عتيق وبالٍ، والهواء يحمل رائحة صدئة خانقة، ممزوجة برائحة أخرى حلوة ومقززة بالكاد يمكن تمييزها.
حاول النهوض، لكن القيد المصنوع من حديد أسود صدئ كان مثبتًا بسلسلة قصيرة في طرف الطاولة المعدنية الثقيلة. شده بقوة، فصدر صرير معدني حاد ومزعج، تردّد صداه في صمت الغرفة المطبق، وكأنه صرخة استغاثة مكتومة.
ثم سمعها… نقرة خفيفة ومترددة خلف الباب الخشبي المتهالك.
نقرة… ثم صمت قصير… ثم اثنتان… ثم ثلاث.
كان هناك إيقاع خفي في تلك النقرات، نمط متكرر يوحي بشفرة أو رسالة ما. قلبه بدأ يخفق بقوة، مزيج من الخوف والأمل يتصاعد في صدره.
انفتح الباب ببطء شديد، وكأنه يئن تحت وطأة الزمن، وظهر رجل يرتدي معطفًا طويلاً داكنًا وقبعة واسعة الحواف حجبت معظم وجهه. الجزء الوحيد الظاهر كان فمًا نحيلًا وعينين داكنتين تخترقان الظلام. كان يحمل في يده دفترًا أسود صغيرًا وقلمًا فضيًا لامعًا. تحرك بصمت وجلس على الكرسي الخشبي المقابل، الذي أصدر صريرًا خافتًا تحت وزنه. فتح الدفتر ببطء، وكأنها طقس مقدس، وقال بصوت هادئ، لكنه يحمل نبرة سلطة خفية:
"لديك خمس دقائق لتتذكر ما كتبته… قبل أن يُعاد التشغيل."
وقبل أن يتمكن من صياغة أي سؤال، رفع الرجل يده وضغط على زر صغير في ساعة جيب قديمة مصنوعة من النحاس الأصفر، معلقة بسلسلة باهتة.
تك.
لم يعد في الغرفة. وجد نفسه فجأة في قطار مزدحم يعج بالركاب الصامتين، واقفًا متصلبًا بين أجساد لا تبدو أنها تلاحظ وجوده، نفس القيد البارد يلتف حول معصمه. كانت الأضواء الداخلية للقطار خافتة ومرتعشة، تلقي بظلال غريبة على الوجوه الشاحبة والعيون الفارغة للركاب. من بعيد، عند الطرف الآخر من العربة، رأى الرجل المقنع يقف بثبات، وكأن الزمن لا يؤثر فيه، يراقب بحدة.
عندما التقت عيونهما عبر المسافة المزدحمة، سُمع صوت جهير ومبهم ينطلق من مكبرات الصوت القديمة المثبتة في سقف العربة:
"الوجهة التالية: المحطة صفر."
بدأ الناس من حوله يتلاشون تدريجيًا، يتحولون إلى غبار رمادي ناعم يتساقط على الأرضية المهترئة للعربة. رجلًا بعد آخر، امرأة بعد امرأة، طفلًا ممسكًا بدمية بالية بعد طفل، حتى لم يتبقَ في العربة المكتظة إلا هو… والرجل المقنع، الذي لم يتزحزح من مكانه.
ثم بدأ القطار يتباطأ بشكل مفاجئ، يصدر صريرًا حادًا من عجلاته المعدنية. نظر من النافذة الملطخة بالغبار، لكن الخارج لم يكن مدينة مضاءة أو ريفًا أخضر… بل فراغ أسود شاسع وبلا نهاية، يبتلع النور ويشي بعدمية مطلقة. شعور بالرعب البدائي تملك منه، وكأن القطار يتجه نحو حافة الكون.
عاد فجأة وبقوة إلى الغرفة الرمادية الكئيبة. الهواء لا يزال يحمل تلك الرائحة الصدئة الحلوة، لكن شيئًا تغير. كان هناك ثقل في الجو، شعور بأن شيئًا قد انكشف.
على الورقة البيضاء الباهتة، ظهرت كلمات مكتوبة بخط يده، لكنها بدت أقدم، باهتة قليلاً:
"إن عدت هنا، فاقرأ هذا جيدًا:
لا تصدقه—نظراته الهادئة تخفي سمًا.
لا تتبع الصوت—همساته تقودك إلى الهاوية.
لا توقّع شيئًا—كل وعد هو فخ مُحكم.
والأهم... لا تنظر إلى المرآة—هي تكشف الحقيقة التي لا يجب أن تراها."
رفع عينيه ببطء، وقلبه يدق بعنف في صدره. على الجدار المقابل، بين الكتابة بالدم وبقعة بنية غامضة، وجد مرآة قديمة ذات إطار ذهبي باهت لم تكن موجودة من قبل. سطحها المعتم يعكس صورته المشوشة.
انعكاسه حدّق به بثبات، ثم ابتسم ببطء، ابتسامة لم يشعر بها قط، ابتسامة باردة وغريبة.
ثم، بكل هدوء وثقة، بدأت النسخة الأخرى من وجهه في الانزلاق، تنفصل عن الوجه المألوف… وكان تحتها وجه أمه، لكنه مشوه بملامح قاسية وعينين باردتين لم يعرفهما قط.
تكلمت من خلف الزجاج البارد، بصوت رخيم وعميق لم يسمعه من قبل:
"تأخّرت يا بني. اللعبة بدأت منذ وُلِدت، وأنت قطعة أساسية فيها."
سقط دفتر أسود سميك في حجره فجأة، وكأنه ظهر من العدم… كان اسمه مكتوبًا بأحرف فضية باهتة على غلافه الجلدي.
فتحه ببطء، وارتجفت يده. وجد على الصفحة الأولى:
"عدد المحاولات السابقة: 18
عدد النجاحات: 0
عدد الموتى بسببك: 72—لكل نسيان ثمن."
ثم سمع الصوت الهادئ للمقنع يتردد في رأسه، وكأنه همسة قادمة من أعماق وعيه:
"اسأل بحكمة، فالسؤال الصحيح قد يُحررك من هذه الحلقة… أو يحكم عليك فيها للأبد."
بدأت أصوات خافتة تهمس في زوايا وعيه، تتداخل وتتنافس:
"اسأل عن البداية الحقيقية…"
"اسأل من كتب القواعد المشؤومة لهذه اللعبة!"
"اسأل من تكون أنت حقًا في هذا الكابوس!"
لكنه تجاهل الضجيج الداخلي، واتبع إحساسًا عميقًا وغير مبرر.
رفع رأسه المثقل بالأسئلة، ونظر إلى الرجل الذي كان يومًا ما غريبًا، وسأل بصوت مرتعش:
"كم مرة… كنتُ أنا المقنّع الذي يأتي إلى هذه الغرفة؟"
حل صمت رهيب في الغرفة، كثيف وثقيل وكأنه حجاب يخنق الأنفاس. حتى صفير القطار البعيد بدا وكأنه قد توقف.
ثم… مد الرجل المقنع يده ببطء ورفق، ونزع القناع الأسود الذي كان يغطي وجهه دائمًا.
كان هو.
لكنه أكبر بكثير، وجهه منهك وتظهر عليه آثار سنوات طويلة من اليأس والمعاناة، وعيناه تحملان نظرة من رأى الحقيقة مرات لا تحصى، نظرة مملوءة بالحزن والتعب الأبدي.
قال بصوت أجش، يحمل نبرة مرارة عميقة:
"كل مرة تختار النسيان، أعود أنا من المستقبل لأحرس هذه اللعبة اللعينة، آملاً أن تتذكر.
وكل مرة تحاول التمرّد بشكل خاطئ، تدفع الثمن بأشخاص أبرياء تحبهم، يصبحون مجرد أرقام في هذا الدفتر الأسود.
لكن الحقيقة التي استغرقت مني دهورًا لفهمها؟ المعاناة لم تكن مجرد عقاب، بل كانت الاختبار الوحيد الذي يمكن أن يوقظك لتعرف… أنك لست مجرد لاعب بائس. بل أنت الصانع، والضحية، والسجان في آن واحد."
أشار بيده المرتعشة إلى الجدار خلف المرآة. فجأة، تصدع سطح المرآة المعتم، ثم تحطم إلى آلاف الشظايا المتلألئة التي سقطت على الأرض تحدث رنينًا خافتًا.
وراء المرآة المحطمة، انكشفت غرفة واسعة ومظلمة، مليئة بعشرات الشاشات المتوهجة بشكل خافت… تعرض كل شاشة نسخة مختلفة منه، في سيناريوهات لا حصر لها، يموت بطرق وحشية، يصرخ من الألم، ينهار تحت وطأة اليأس. كانت حياته تتكرر وتتعذب بلا نهاية في هذه الحلقات الزمنية المشؤومة.
في منتصف الغرفة، كان هناك كرسي وحيد فارغ، مصنوع من مادة غير معروفة تبدو وكأنها تمتص الضوء.
وعلى مسنده، كانت هناك لافتة صغيرة مكتوبة بخط باهت:
"المشرف التالي: قيد التفعيل."
استدار المقنع، أو النسخة الأكبر منه، وقال بنبرة تحمل مزيجًا من الإرهاق والأمل الخافت:
"لقد وصلت أخيرًا إلى النهاية الوحيدة التي لا يمكن محوها… النهاية التي تملك فيها الخيار الحقيقي: إما أن تنهي هذه اللعبة المجنونة إلى الأبد… أو أن تستسلم وتديرها، وتكرر نفس الدورة الأبدية من العذاب."
سأله، وقلبه يخفق بقوة وهو يستوعب هول الحقيقة:
"وإن اخترت أن أنهيها؟ ماذا سيحدث؟"
أجاب بصوت مهموم:
"سيموت الجميع المرتبطين بهذه اللعبة، لكنهم سيجدون الراحة أخيرًا. بمن فيهم… نحن، نسخك المعذبة عبر الزمن."
مشَى بخطوات ثقيلة نحو الكرسي الفارغ. جلس عليه ببطء، وكأن ثقل السنين يضغط على كتفيه.
وقال بهدوء، للمرة الأولى يشعر بمعنى حقيقي للكلمات:
"انتهت اللعبة."
في اللحظة نفسها، انطفأت الشاشات المتوهجة في الغرفة الخلفية الواحدة تلو الأخرى، تاركة وراءها ظلامًا دامسًا خانقًا. سقط الدفتر الأسود من يده على الأرض الباردة، وأحدث صوتًا مكتومًا. تفكك القيد المعدني حول معصمه، وسقط على الأرض برنين خافت، وكأنه آخر صدى لكابوس طويل.
ظل جالسًا على الكرسي، يشعر بفراغ غريب يحل محل الخوف والقلق الذي لازمه طوال الوقت. لم يعد يسمع الهمسات، ولم يعد يرى المقنع. ساد صمت مطبق، أثقل من كل الأصوات التي سمعها من قبل.
أغلق عينيه للحظة، ثم فتحهما ببطء. الغرفة لا تزال كما هي: الجدران الرمادية، الأثاث القديم، رائحة الصدأ الخانقة. لكن شيئًا ما بدا مختلفًا… أكثر هدوءًا، أقل تهديدًا.
حاول الوقوف، وشعر بثقل في جسده، وكأنه يستيقظ من نوم عميق وطويل. نظر إلى معصمه الأيسر، لم يعد هناك أي أثر للقيد، فقط علامة حمراء باهتة بدأت تتلاشى.
ثم… رأى نفسه.
لم يكن في الغرفة الرمادية الكئيبة. كان مستلقيًا على سرير في غرفة بيضاء ناصعة، نظيفة ومعقمة. بجانبه، كانت هناك آلات تصدر أصواتًا منتظمة، وشاشة تعرض تخطيطًا لنبضات قلبه.
رفع رأسه ببطء، وشعر بدوار خفيف. نظر حوله بتمعن. كانت هناك ممرضة تقف بجانب الباب الزجاجي، تنظر إليه بقلق.
حاول الكلام، لكن صوته كان مبحوحًا وجافًا: "أين… أنا؟"
اقتربت الممرضة بسرعة وابتسمت برفق: "أهلًا بك. أنت في مستشفى الأمل. لقد استيقظت أخيرًا."
"استيقظت؟" تساءل بارتباك. "ماذا حدث؟"
تنهدت الممرضة وقالت بهدوء: "لقد مررت بفترة صعبة. حالة من الانفصام الحاد… كنت تعيش في عالم من صنع خيالك لفترة طويلة."
بدأ يسترجع بعض الصور المتفرقة: الغرفة الرمادية، القيد، الرجل المقنع، القطار، المرآة… كل شيء بدا حقيقيًا للغاية.
"الرجل… المقنع… والمرآة…" تمتم بصوت خافت.
هزت الممرضة رأسها بحزن: "لم يكن هناك أحد. كنت وحدك. لقد وجدناك في شقتك، تتحدث بصوت عالٍ وتكتب أشياء غريبة على الجدران."
نظر إلى يديه. لم يكن هناك دفتر أسود. نظر حوله مرة أخرى. لم تكن هناك شاشات أو غرفة خلف المرآة.
"لكن… الـ 72 شخصًا…" قال بصوت يكاد لا يُسمع.
أمسكت الممرضة بيده بلطف: "لم يؤذِ أحدًا يا عزيزي. لكنك كنت تعاني كثيرًا في داخلك."
بدأ يستوعب ببطء. "اللعبة"… لم تكن مكانًا حقيقيًا. كانت صراعًا داخليًا، معركة مع أجزاء من نفسه. المقنع… كان هو نفسه، لكنه مُثقل باليأس والذنب. المرآة… كانت تعكس صراعه مع هويته.
تذكر الكلمات الأخيرة التي همست في الهواء في عالمه المتخيل: "أخيرًا… أحدهم اختار ألا يُعيد التشغيل."
ربما كان إنهاء "اللعبة" يعني مواجهة نفسه الحقيقية، الاعتراف بالصراعات الداخلية التي كانت تمزقه.
نظر إلى انعكاسه الشاحب في زجاج النافذة. لم يرَ وجه أمه المشوه هذه المرة، بل رأى عينين متعبتين، لكنهما تحملان بذرة أمل خافتة.
"إذن… لم يكن هناك إعادة تشغيل؟" سأل بصوت أكثر وضوحًا.
ابتسمت الممرضة: "لقد بدأت رحلة جديدة الآن."